فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مغزى تلازم الإيمان والعمل الصالح في القرآن:

وفي تقديم الإيمان على العمل الصالح إشارة إلى انبثاق العمل الصالح من الإيمان. فالإيمان هو الذي يدفع صاحبه إلى الخير ويزعه عن الشر. وفي ربط الإيمان بالعمل الصالح إشارة إلى وجوب تلازمهما واعتبار العمل الصالح عنوانا أو مظهرا للإيمان. وهذا التلازم بين ذكر الإيمان والعمل الصالح يلحظ في جل الآيات القرآنية مما يمكن أن يدل على قصد الإشارة إلى شدة الارتباط واللحمة والتوافق بينهما وتوكيدها. وإذا لوحظ أن الإيمان شيء داخلي أو ذاتي في أعماق النفس لا يمكن أن يدل على نفسه بنفسه، ولا يمكن أن يدل عليه إلا العمل الصالح بأن لنا وجه الحق في ذلك.
والحكمة في هذا ظاهرة قوية، فالإيمان يمنح صاحبه طمأنينة واستقرار نفس يجعلانه يصدر في أعماله وأهدافه عن يقين وقصد وتثبت واندفاع وصبر، ويتحمل في سبيل ذلك ما قد يلاقيه من مصاعب وما تمس الحاجة إليه من تضحيات.
والإيمان باللّه يجعل صاحبه يقبل على الخير والعمل الصالح وينقبض عن الشر والإثم والسيئات ابتغاء لوجه اللّه واتقاء لغضبه واكتسابا لرضائه ورضوانه، دون أن يكون هناك حافز من منفعة عاجلة أو دون أن يكون ذلك مما لابد منه على الأقل.
أما العمل الذي لا يصدر عن إيمان فإنه يكون معرضا في الأغلب للانقطاع والتردد والتأثر بالمؤثرات والاعتبارات الشخصية والنفعية والظرفية. وكثيرا ما ينصرف المرء عنه حينما يلقى المصاعب والمشاكل، أو حينما يتطلب منه التضحيات أو حينما لا يكون من ورائه جلب خير أو دفع شر عاجل. والعمل الصالح من الجهة الأخرى لا يكون فيه حيوية ويقين وتثبت واستمرار إذا لم يكن منبثقا من إيمان يجعله لازما حيّا قويا بذاته وبصرف النظر عن أي اعتبار، ويجعل صاحبه لا ينصرف عنه مهما لاقى في سبيله من مصاعب واقتضى منه من تضحية وعناء واستنفد من قوة وجهد.
وإذا أراد قائل أن يقول إن هناك من يفعل الخير لذاته نتيجة للتربية الخلقية الراسخة فليذكر هذا القائل أن هذا النوع من الندرة بحيث لا يمكن أن يورد على ما قررناه آنفا وأن المجتمع في حاجة دائمة إلى حافز مشترك يشمل بتأثيره أكبر عدد ممكن من البشر، وليس هذا الحافز إلّا الإيمان. وهذا فضلا عن أن التدين الراسخ في أعماق الطبيعة الإنسانية يمهد السبيل لقوة هذا الحافز وتأثيره وشموله.
وإذا أراد قائل أن يقول إن كثيرا من المؤمنين باللّه واليوم الآخر لا يفعلون الخير أو لا يفعلونه إلّا إذا رجوا مقابلة عاجلة عليه، فالجواب على هذا هو أن إيمان هؤلاء ليس هو الإيمان الصحيح. فهم مسلمون أكثر منهم مؤمنون. وقد فرق القرآن بين الفئتين ونبه لمدى وأثر الإيمان الصحيح في صاحبه في آيات سورة الحجرات هذه: {قالتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قولوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)}.
على أن الوازع للخير يظل دائما أقوى في المؤمنين على كل حال منه في غير المؤمنين على ما هو المشاهد المحسوس في كل وقت.
هذا، وأسلوب السورة المطلق يسوغ وصفها بما وصفت به سورة الفاتحة والأعلى والليل والفجر، واللّه أعلم. اهـ.

.قال الشيخ عبد الكريم الخطيب:

(103) سورة العصر:
نزولها:
مكية.. نزلت بعد سورة الانشراح.
عدد آياتها: ثلاث آيات.
عدد كلماتها: أربع عشرة كلمة.
عدد حروفها: ثمانية وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
الإنسان الذي ألهاه التكاثر بالأموال، والتفاخر بالجاه والسلطان، دون أن يتزود للآخرة بزاد الإيمان والتقوى، هو هذا الإنسان الخاسر.. وأي خسران أكثر من أنه اشترى الدنيا بالآخرة؟ وهذا ما جاءت سورة العصر لتقرره..
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 3) [سورة العصر (103): الآيات 1- 3]
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
التفسير:
قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ}.
هو قسم بهذا الوقت من أوقات الزمن، وهو الساعات الأخيرة من النهار..
وقد أقسم اللّه سبحانه وتعالى بأجزاء من الزمن، كالفجر، والضحى، والليل، والنهار..
وفى القسم {بالعصر} تنويه بشأن هذا الوقت من الزمن، الذي تبدأ فيه الأحياء تجمع نفسها، وتعود إلى مأواها بما حصّلت وجمعت في سعيها في الحياة..
وإنه لجدير بالعاقل أن يحاسب نفسه على ما عمل في يومه هذا، وما حصل فيه من خير، وما اقترف فيه من إثم.. إنه وقت محاسبة ومراجعة لأعمال اليوم، وتصحيح للأخطاء التي وقع فيها، فلا يستأنفها في غده.. ولهذا كانت صلاة العصر هي الصلاة الوسطى- على ما جاءت به الأخبار الصحيحة، وقرره معظم أهل العلم- تلك الصلاة التي نوه اللّه سبحانه وتعالى بها، فقال تعالى: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} (238: البقرة).
وقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ}.
هو المقسم عليه، وهو جواب القسم.. والإنسان في خسر، أي في ضلال، لأنه لم يعرف قدره، ولم يرتفع بإنسانيته إلى المقام الذي أهّله اللّه سبحانه وتعالى له.. فلقد خلق اللّه سبحانه الإنسان في أحسن تقويم، ولكن الإنسان لم يلتفت إلى هذا الخلق، ولم يقدره قدره، ولم يأخذ الطريق الذي يدعو إليه العقل، بل انقاد لشهواته، واستخف بإنسانيته، وتحول إلى عالم البهيمة، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام..
ذلك هو شأن الإنسان في معظم أفراده وأحواله.. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر إنسانيتهم، وما أودع اللّه سبحانه وتعالى فيهم من قوى قادرة على أن ترتفع بهم إلى الملأ الأعلى، لو أنهم أحسنوا استعمالها، وهؤلاء هم الذين استثناهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ}. فهؤلاء هم الإنسان الكريم عند اللّه، الذي يلقاه ربه بالرضا والرضوان.. إنهم هم الذين آمنوا باللّه، وعرفوا ما للّه سبحانه وتعالى، من كمال وجلال..
فاستمسكوا بالحق، وهو الإيمان، وما يدعو إليه، وما ينهى عنه.. ثم تواصوا به فيما بينهم، فنصح بعضهم لبعض بالاستقامة عليه، والتمسك به، وفى هذا ما يقوّى من جبهة الحق، ويكثّر من أتباعه.
وفى قوله تعالى: {وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ}- إشارة إلى أن طريق الإيمان، والاستقامة على شريعته ليس أمرا هينا، فإن ذلك إنما يحتاج إلى معاناة وصبر على مغالبة الشهوات، وقهر دواعى الأهواء، ووساوس الشيطان.. فطريق الحق طريق محفوف بالمكاره، والصبر هو زاد الذين يسلكون طريقه، ويبلغون به غايات الفوز والفلاح. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ (2)}
أقسم الله تعالى بالعصر قسمًا يراد به تأكيد الخبر كما هو شأن أقسام القرآن.
والمقسَم به من مظاهر بديع التكوين الرباني الدال على عظيم قدرته وسعة علمه.
وللعصر معانٍ يتعين أن يَكون المراد منها لا يعدو أن يكون حالة دالة على صفة من صفات الأفعال الربانية، يتعين إما بإضافته إلى ما يُقدر، أو بالقرينة، أو بالعهد، وأيًَّا ما كان المرادُ منه هنا فإن القسم به باعتبار أنه زمن يذكِّر بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، وبأمور عظيمة مباركة مثل الصلاة المخصوصة أو عصرٍ معين مبارك.
وأشهر إطلاق لفظ العصر أنه علَم بالغلبة لوقتت ما بين آخر وقت الظهر وبين اصفرار الشمس فمبدؤه إذا صار ظل الجسم مثلَه بعد القَدْر الذي كان عليه عند زوال الشمس ويمتد إلى أن يصير ظلُّ الجسم مثلَيْ قدرِه بعد الظل الذي كان له عند زوال الشمس.
وذلك وقت اصفرار الشمس، والعصر مبدأ العشيّ.
ويعقبه الأصيل والاحمرار وهو ما قبل غروب الشمس، قال الحارث بن حِلزة:
آنستْ نبأة وأفزَعها القَنَّ ** اصُ عَصرًا وقَدْ دَنَا الإِمساء

فذلك وقت يؤذن بقرب انتهاء النهار، ويذكر بخلقة الشمس والأرض، ونظام حركة الأرض حول الشمس، وهي الحركة التي يتكون منها الليل والنهار كل يوم وهو من هذا الوجه كالقسم بالضحى وبالليل والنهار وبالفجر من الأحوال الجوية المتغيرة بتغير توجه شعاع الشمس نحو الكرة الأرضية.
وفي ذلك الوقت يتهيأ الناس للانقطاع عن أعمالهم في النهار كالقيام على حقولهم وجنَّاتهم، وتجاراتهم في أسواقهم، فيذكر بحكمة نظام المجتمع الإنساني وما ألهم الله في غريزته من دأب على العمل ونظاممٍ لابتدائه وانقطاعه.
وفيه يتحفز الناس للإِقبال على بيوتهم لمبيتهم والتأنس بأهليهم وأولادهم.
وهو من النعمة أو من النعيم، وفيه إيماء إلى التذكير بمَثَل الحياة حين تدنو آجال الناس بعد مضي أطوار الشباب والاكتهال والهَرم.
وتعريفه باللام على هذه الوجوه تعريف العهد الذهني أي كل عَصْر.
ويطلق العصر على الصلاة الموقتة بوقت العَصر.
وهي صلاة معظمة.
قيل: هي المراد بالوسطى في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238].
وجاء في الحديث: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه».
وورد في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» فذَكَر «ورجل حلف يمينًا فاجرة بعد العصر على سلعة لقد أعطي بها ما لم يُعْطَ». وتعريفه على هذا تعريف العهد وصار علَمًا بالغلبة كما هو شأن كثير من أسماء الأجناس المعرفة باللام مثل العقبة.
ويطلق العصر على مدة معلومة لوجود جِيل من الناس، أو مَلِك أو نبيء، أو دين، ويعيَّن بالإِضافة، فيقال: عصر الفِطَحْل، وعصر إبراهيم، وعصر الإِسكندر، وعصر الجاهلية، فيجوز أن يكون مراد هذا الإِطلاق هنا ويكون المعنيّ به عصرَ النبي صلى الله عليه وسلم والتعريف فيه تعريف العهد الحضوري مثل التعريف في (اليوم) من قولك: فعلت اليوم كذا، فالقسم به كالقسم بحياته في قوله تعالى: {لعمرك} [الحجر: 72].
قال الفخر: فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد} [البلد: 2] وبعمره في قوله: {لعمرك}.
اهـ.
ويجوز أن يراد عصر الإِسلام كلِه وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإِسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بقوله: «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له يومًا إلى الليل فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا، واستأجر قومًا أن يعملوا بقيةَ يومهم فعملوا حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هُم».
فلعل ذلك التمثيل النبوي له اتصال بالرمز إلى عصر الإِسلام في هذه الآية.
ويجوز أن يفسر العصر في هذه الآية بالزمان كله، قال ابن عطية: قال أبي بن كعب: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: أقسم ربكم بآخر النهار.
وهذه المعاني لا يفي باحتمالها غير لفظ العصر.
ومناسبة القَسَم بالعَصر لغرض السورة على إرادة عصر الإِسلام ظاهرة فإنها بينت حال الناس في عصر الإِسلام بين مَن كفر به ومن آمن واستوفى حظه من الأعمال التي جاء بها الإِسلام، ويعرف منه حالُ من أسلموا وكان في أعمالهم تقصير متفاوت، أما أحوال الأمم التي كانت قبل الإِسلام فكانت مختلفة بحسب مجيء الرسل إلى بعض الأمم، وبقاء بعض الأمم بدون شرائع متمسكة بغير دين الإِسلام من الشرك أو بدين جاء الإِسلام لنسخه مثل اليهودية والنصرانية قال تعالى: {من يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} في سورة آل عمران (85).
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس مراد به الاستغراق وهو استغراق عرفي لأنه يستغرق أفراد النوع الإنساني الموجودين في زمن نزول الآية وهو زمن ظهور الإِسلام كما علمت قريبًا.
ومخصوص بالناس الذين بلغتهم الدعوة في بلاد العالم على تفاوتها.
ولما استُثني منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقي حكمه متحققًا في غير المؤمنين كما سيأتي...
والخُسر: مصدر وهو ضد الربح في التجارة، استعير هنا لسوء العاقبة لمن يظن لنفسه عاقبةً حسنة، وتلك هي العاقبة الدائمة وهي عاقبة الإنسان في آخرته من نعيم أو عذاب.
وقد تقدم في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في سورة البقرة (16) وتكررت نظائره من القرآن آنفًا وبَعيدًا.
والظرفية في قوله: {لفي خسر} مجازية شبهت ملازمة الخسر بإحاطة الظرف بالمظروف فكانت أبلغ من أن يقال: إن الإنسان لخاسر.
ومجيء هذا الخبر على العموم مع تأكيده بالقَسم وحرفف التوكيد في جوابه، يفيد التهويل والإِنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس.
وأعقب بالاستثناء بقوله: {إلا الذين آمنوا} الآية فيتقرر الحكم تامًا في نفس السامع مبينًا أن الناس فريقان: فريق يلحقه الخسران، وفريق لا يلحقه شيء منه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحال إذا لم يتركوا شيئًا من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات.
ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها، فمن تحقق فيه وصف الإِيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي، أي حسن عاقبة أمره، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران.
وهذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإِيمان بوحدانية الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودون ذلك تكونُ مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها.
وما حدده الإِسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم اذا ترك صاحبه الكبائر والفواحشَ وهو ما فسر به قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114].
وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينة مقام الإِنذار والوعيد، أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا، قال تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 196، 197].
وتنكير {خسر} يجوز أن يكون للتنويع، ويجوز أن يكون مفيدًا للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسَم.
والمعنى: إن الناس لفي خسران عظيم وهم المشركون.
والتعريف في قوله: {الصالحات} تعريف الجنس مراد به الاستغراق، أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين وعَمل الصالحات يشمل ترك السيئات.
وقد أفاد استثناء المتصفين بمضمون الصلة ومعطوفها إيماء إلى علة حكم الاستثناء وهو نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه فإنهم ليسوا في خسر لأجل أنهم آمنوا وعملوا الصالحات.
فأما الإِيمان فهو حقيقة مقول على جزئياتها بالتواطؤ.
وأما الصالحات فعمومها مقول عليه بالتشكك، فيشير إلى أن انتفاء الخسران عنهم يتقدر بمقدار ما عملوه من الصالحات وفي ذلك مراتب كثيرة.
وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خُسر على أن سبب كون بقية الإنسان في خسر هو عدم الإِيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة.
وعُلم من الموصول أن الإِيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإنسان.
وعُطف على عَمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عَطْف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يُغفل عنه، يُظن أن العمل الصالح هو ما أثرُه عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر.
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضًا وإن كان خصوصه خصوصًا من وجهٍ لأن الصبر تحمَّل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق.
وحقيقة الصبر أنه: منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله إن كان صعبَ الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوْف ضر ينْشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور أو لرغبة في حصول نفع منه كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك.
ومن الصبر الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو مِن أذاهم بالقول كمن يقول لأمره: هَلاّ نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك.
وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشّم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها، فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها.
وقل اشتمل قوله تعالى: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإِسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر.
والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبرَ عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكه لمن راض نفسه عليها، كما قال عمرو بن العاص:
إذا المرءُ لم يَترُكْ طعامًا يُحبُّه ** ولم يَنْهَ قلبًا غاويًا حيثُ يمَّما

فيوشِك أن تُلفَى له الدَّهرَ سُبّةٌ ** إذا ذُكِرَتْ أمثالها تَمْلأ الفَمَا

وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه.
وفي الحديث: «حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفّت النار بالشهوات».
وعن علي بن أبي طالب: «الصبر مطية لا تكبو». وقد مضى الكلام على الصبر مشبعًا عند قوله تعالى: {استعينوا بالصبر والصلاة} في سورة البقرة (45).
وأفادت صيغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة المؤمنين قائمًا على شيوع التأمر بهما ديدنًا لهم، وذلك يقتضي اتصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإِسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحدا لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقًا بالملازمة إذ قلّ أن يُقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع، وقد قال الله تعالى توبيخًا لبني إسرائيل: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة: 44]، وقد تقدم هذا المعنى عند قوله تعالى: {ولا تحاضون على طعام المسكين} في سورة الفجر (18). اهـ.